كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{فإن أسلموا فقد اهتدوا}..
فالهدى يتمثل في صورة واحدة. هي صورة الإسلام بحقيقته تلك وطبيعته. وليس هنالك صورة أخرى، ولا تصور آخر، ولا وضع آخر، ولا منهج آخر يتمثل فيه الاهتداء.. إنما هو الضلال والجاهلية والحيرة والزيغ والالتواء..
{وإن تولوا فإنما عليك البلاغ}..
فعند البلاغ تنتهي تبعة الرسول وينتهي عمله. وكان هذا قبل أن يأمره الله بقتال من لا يقبلون الإسلام حتى ينتهوا: إما إلى اعتناق الدين والخضوع للنظام الذي يتمثل فيه. وإما إلى التعهد فقط بالطاعة للنظام في صورة أداء الجزية.. حيث لا إكراه على الاعتقاد..
{والله بصير بالعباد}..
يتصرف في أمرهم وفق بصره وعلمه. وأمرهم إليه على كل حال.
ولكنه لا يدعهم حتى يبين لهم مصيرهم الذي ينتظرهم وينتظر أمثالهم وفق سنة الله الماضية أبداً في المكذبين والبغاة:
{إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم.
أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين}..
فهذا هو المصير المحتوم: عذاب أليم لا يحدده بالدنيا أو بالآخرة. فهو متوقع هنا وهناك. وبطلان لأعمالهم في الدنيا والآخرة في تعبير مصور. فالحبوط هو انتفاخ الدابة التي ترعى نبتاً مسموماً، توطئة لهلاكها.. وهكذا أعمال هؤلاء قد تنتفخ وتتضخم في الأعين. ولكنه الانتفاخ المؤدي إلى البطلان والهلاك! حيث لا ينصرهم ناصر ولا يدفع عنهم حام!
وذكر الكفر بآيات الله مصحوباً بقتل النبيين بغير حق- وما يمكن أن يقتل نبي ثم يكون هناك حق- وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس- أي الذين يأمرون باتباع منهج الله القائم بالقسط المحقق وحده للقسط.. ذكر هذه الصفات يوحي بأن التهديد كان موجهاً لليهود، فهذه سمتهم في تاريخهم يعرفون بها متى ذكرت! ولكن هذا لا يمنع أن يكون الكلام موجهاً للنصارى كذلك. فقد كانوا حتى ذلك التاريخ قتلوا الألوف من أصحاب المذاهب المخالفة لمذهب الدولة الرومانية المسيحية- بما فيهم من جاهروا بتوحيد الله تعالى وبشرية المسيح عليه السلام- وهؤلاء ممن يأمرون بالقسط.. كما أنه تهديد دائم لكل من يقع منه مثل هذا الصنيع البشع.. وكثير ما هم في كل زمان..
ويحسن أن نتذكر دائماً ماذا يعني القرآن بوصف {الذين يكفرون بآيات الله}.. فليس المقصود فقط من يعلن كلمة الكفر. إنما يدخل في مدلول هذا الوصف من لا يقر بوحدة الألوهية، وقصر العبودية عليها. وهذا يتضمن بصراحة وحدة الجهة التي تصرّف حياة العباد بالتشريع والتوجيه والقيم والموازين.. فمن جعل لغير الله شيئاً من هذا ابتداء فهو مشرك به أو كافر بألوهيته. ولو قالها ألف مرة باللسان! وسنرى في الآيات التالية في السياق مصداق هذا الكلام..
{ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}..
إنه سؤال التعجيب والتشهير من هذا الموقف المتناقض الغريب. موقف الذين أوتوا نصيباً من الكتاب. وهو التوراة لليهود ومعها الإنجيل للنصارى. وكل منهما نصيب من الكتاب باعتبار أن كتاب الله هو كل ما أنزل على رسله، وقرر فيه وحدة ألوهيته ووحدة قوامته. فهو كتاب واحد في حقيقته، أوتي اليهود نصيباً منه، وأوتي النصارى نصيباً منه، وأوتي المسلمون الكتاب كله باعتبار القرآن جامعاً لأصول الدين كله، ومصدقاً لما بين يديه من الكتاب.
سؤال التعجيب من هؤلاء {الذين أوتوا نصيباً من الكتاب}.. ثم هم يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم في خلافاتهم، وليحكم بينهم في شؤون حياتهم ومعاشهم، فلا يستجيبون جميعاً لهذه الدعوة، إنما يتخلف فريق منهم ويعرض عن تحكيم كتاب الله وشريعته. الأمر الذي يتناقض مع الإيمان بأي نصيب من كتاب الله؛ والذي لا يستقيم مع دعوى أنهم أهل كتاب:
{ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون}..
هكذا يعجب الله من أهل الكتاب حين يعرض بعضهم- لا كلهم- عن الاحتكام إلى كتاب الله في أمور الاعتقاد وأمور الحياة. فكيف بمن يقولون: إنهم مسلمون، ثم يخرجون شريعة الله من حياتهم كلها. ثم يظلون يزعمون أنهم مسلمون! إنه مثل يضربه الله للمسلمين أيضاً كي يعلموا حقيقة الدين وطبيعة الإسلام؛ ويحذروا أن يكونوا موضعاً لتعجيب الله وتشهيره بهم. فإذا كان هذا هو استنكار موقف أهل الكتاب الذين لم يدعوا الإسلام، حين يعرض فريق منهم عن التحاكم إلى كتاب الله، فكيف يكون الاستنكار إذا كان المسلمون هم الذين يعرضون هذا الإعراض.. إنه العجب الذي لا ينقضي، والبلاء الذي لا يقدر، والغضب الذي ينتهي إلى الشقوة والطرد من رحمة الله! والعياذ بالله!
ثم يكشف عن علة هذا الموقف المستنكر المتناقض:
{ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون}..
هذا هو السبب في الإعراض عن الاحتكام إلى كتاب الله؛ والتناقض مع دعوى الإيمان ودعوى أنهم أهل كتاب.. إنه عدم الاعتقاد بجدية الحساب يوم القيامة، وجدية القسط الإلهي الذي لا يحابي ولا يميل. يتجلى هذا في قولهم:
{لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات}..
وإلا فلماذا لا تمسهم النار إلا أياماً معدودات؟ لماذا وهم ينحرفون أصلاً عن حقيقة الدين وهي الاحتكام في كل شيء إلى كتاب الله؟ لماذا إذا كانوا يعتقدون حقاً بعدل الله؟ بل إذا كانوا يحسون أصلاً بجدية لقاء الله؟ إنهم لا يقولون إلا افتراء، ثم يغرهم هذا الافتراء:
{وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون}..
وحقاً إنه لا يجتمع في قلب واحد جدية الاعتقاد بلقاء الله، والشعور بحقيقة هذا اللقاء، مع هذا التميع في تصور جزائه وعدله..
وحقاً إنه لا يجتمع في قلب واحد الخوف من الآخرة والحياء من الله، مع الإعراض عن الاحتكام إلى كتاب الله، وتحكيمه في كل شأن من شؤون الحياة..
ومثل أهل الكتاب هؤلاء مثل من يزعمون اليوم أنهم مسلمون. ثم يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيتولون ويعرضون. وفيهم من يتبجحون ويتوقحون، ويزعمون أن حياة الناس دنيا لا دين! وأن لا ضرورة لإقحام الدين في حياة الناس العملية وارتباطاتهم الاقتصادية والاجتماعية، بل العائلية، ثم يظلون بعد ذلك يزعمون أنهم مسلمون! ثم يعتقد بعضهم في غرارة بلهاء أن الله لن يعذبهم إلا تطهيراً من المعاصي، ثم يساقون إلى الجنة! أليسوا مسلمين؟ إنه نفس الظن الذي كان يظنه أهل الكتاب هؤلاء، ونفس الغرور بما افتروه ولا أصل له في الدين.
وهؤلاء وأولئك سواء في تنصلهم من أصل الدين، وتملصهم من حقيقته التي يرضاها الله: الإسلام: الاستسلام والطاعة والاتباع. والتلقي من الله وحده في كل شأن من شؤون الحياة:
{فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}؟
كيف؟ إنه التهديد الرعيب الذي يشفق القلب المؤمن أن يتعرض له وهو يستشعر جدية هذا اليوم وجدية لقاء الله، وجدية عدل الله؛ ولا يتميع تصوره وشعوره مع الأماني الباطلة والمفتريات الخادعة.. وهو بعد تهديد قائم للجميع.. مشركين وملحدين، وأهل كتاب ومدعي إسلام، فهم سواء في أنهم لا يحققون في حياتهم الإسلام!
{فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه}.. وجرى العدل الإلهي مجراه؟ {ووفيت كل نفس ما كسبت}.. بلا ظلم ولا محاباة؟ {وهم لا يظلمون}.. كما أنهم لا يحابون في حساب الله؟
سؤال يلقى ويترك بلا جواب.. وقد اهتز القلب وارتجف وهو يستحضر الجواب!
بعدئذ يلقن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل مؤمن، أن يتجه إلى الله، مقرراً حقيقة الألوهية الواحدة، وحقيقة القوامة الواحدة، في حياة البشر، وفي تدبير الكون. فهذه وتلك كلتاهما مظهر للألوهية وللحاكمية التي لا شريك لله فيها ولا شبيه:
{قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب}..
نداء خاشع.. في تركيبه اللفظي إيقاع الدعاء. وفي ظلاله المعنوية روح الابتهال. وفي التفاتاته إلى كتاب الكون المفتوح استجاشة للمشاعر في رفق وإيناس. وفي جمعه بين تدبير الله وتصريفه لأمور الناس ولأمور الكون إشارة إلى الحقيقة الكبيرة: حقيقة الألوهية الواحدة القوامة على الكون والناس؛ وحقيقة أن شأن الإنسان ليس إلا طرفاً من شأن الكون الكبير الذي يصرفه الله؛ وأن الدينونة لله وحده هي شأن الكون كله كما هي شأن الناس؛ وأن الانحراف عن هذه القاعدة شذوذ وسفه وانحراف!
{قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء}..
إنها الحقيقة الناشئة من حقيقة الألوهية الواحدة.. إله واحد فهو المالك الواحد.. هو {مالك الملك} بلا شريك.. ثم هو من جانبه يملك من يشاء ما يشاء من ملكه.
يملكه إياه تمليك العارية يستردها صاحبها ممن يشاء عندما يشاء. فليس لأحد ملكية أصيلة يتصرف فيها على هواه. إنما هي ملكية معارة له خاضعة لشروط المملك الأصلي وتعليماته؛ فإذا تصرف المستعير فيها تصرفاً مخالفاً لشرط المالك وقع هذا التصرف باطلاً. وتحتم على المؤمنين رده في الدنيا. أما في الآخرة فهو محاسب على باطله ومخالفته لشرط المملك صاحب الملك الأصيل..
وكذلك هو يعز من يشاء ويذل من يشاء بلا معقب على حكمه، وبلا مجير عليه، وبلا راد لقضائه، فهو صاحب الأمر كله بما أنه- سبحانه- هو الله.. وما يجوز أن يتولى هذا الاختصاص أحد من دون الله.
وفي قوامة الله هذه الخير كل الخير. فهو يتولاها سبحانه بالقسط والعدل. يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء بالقسط والعدل. ويعز من يشاء ويذل من يشاء بالقسط والعدل. فهو الخير الحقيقي في جميع الحالات؛ وهي المشيئة المطلقة والقدرة المطلقة على تحقيق هذا الخير في كل حال: {بيدك الخير}.. {إنك على كل شيء قدير}..
وهذه القوامة على شؤون البشر، وهذا التدبير لأمرهم بالخير، ليس إلا طرفاً من القوامة الكبرى على شؤون الكون والحياة على الإطلاق:
{تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب}..
والتعبير التصويري لهذه الحقيقة الكبيرة، يملأ بها القلب والمشاعر والبصر والحواس: هذه الحركة الخفية المتداخلة. حركة إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل؛ وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي.. الحركة التي تدل على يد الله بلا شبهة ولا جدال، متى ألقى القلب إليها انتباهه، واستمع فيها إلى صوت الفطرة الصادق العميق.
وسواء كان معنى إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل هو أخذ هذا من ذاك وأخذ ذاك من هذا عند دورة الفصول.. أو كان هو دخول هذا في هذا عند دبيب الظلمة ودبيب الضياء في الأمساء والأصباح.. سواء كان هذا أو ذاك فإن القلب يكاد يبصر يد الله وهي تحرك الأفلاك، وتلف هذه الكرة المعتمة أمام تلك الكرة المضيئة، وتقلب مواضع الظلمة ومواضع الضياء.. شيئاً فشيئاً يتسرب غبش الليل إلى وضاءة النهار. وشيئاً فشيئاً يتنفس الصبح في غيابة الظلام.. شيئاً فشيئاً يطول الليل وهو يأكل من النهار في مقدم الشتاء. وشيئاً فشيئاً يطول النهار وهو يسحب من الليل في مقدم الصيف.. وهذه أو تلك حركة لا يدعي الإنسان أنه هو الذي يمسك بخيوطها الخفية الدقيقة؛ ولا يدعي كذلك عاقل أنها تمضي هكذا مصادفة بلا تدبير!
كذلك الحياة والموت، يدب أحدهما في الآخر في بطء وتدرج. كل لحظة تمر على الحي يدب فيه الموت إلى جانب الحياة، ويأكل منه الموت وتبنى فيه الحياة! خلايا حية منه تموت وتذهب، وخلايا جديدة فيه تنشأ وتعمل.
وما ذهب منه ميتاً يعود في دورة أخرى إلى الحياة. وما نشأ فيه حياً يعود في دورة أخرى إلى الموت.. هذا في كيان الحي الواحد.. ثم تتسع الدائرة فيموت الحي كله، ولكن خلاياه تتحول إلى ذرات تدخل في تركيب آخر ثم تدخل في جسم حي فتدب فيها الحياة.. وهكذا دورة دائبة في كل لحظة من لحظات الليل والنهار.. ولا يدعي الإنسان أنه هو الذي يصنع من هذا كله شيئاً. ولا يزعم عاقل كذلك أنها تتم هكذا مصادفة بلا تدبير!
حركة في كيان الكون كله وفي كيان كل حي كذلك. حركة خفية عميقة لطيفة هائلة. تبرزها هذه الإشارة القرآنية القصيرة للقلب البشري والعقل البشري؛ وهي تشي بيد القادر المبدع اللطيف المدبر.. فأنى يحاول البشر أن ينعزلوا بتدبير شأنهم عن اللطيف المدّبر؟ وأنى يختارون لأنفسهم أنظمة من صنع أهوائهم وهم قطاع من هذا الكون الذي ينظمه الحكيم الخبير؟
ثم أنى يتخذ بعضهم بعضاً عبيداً، ويتخذ بعضهم بعضاً أرباباً، ورزق الجميع بيد الله وكلهم عليه عيال: {وترزق من تشاء بغير حساب}..
إنها اللمسة التي ترد القلب البشري إلى الحقيقة الكبرى. حقيقة الألوهية الواحدة. حقيقة القوامة الواحدة. وحقيقة الفاعلية الواحدة وحقيقة التدبير الواحد. وحقيقة المالكية الواحدة وحقيقة العطاء الواحد. ثم حقيقة أن الدينونة لا تكون إلا لله القيوم، مالك الملك، المعز المذل، المحيي المميت، المانح المانع، المدبر لأمر الكون والناس بالقسط والخير على كل حال.
هذه اللمسة تؤكد الاستنكار الذي سبق في الفقرة الماضية لموقف الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، ثم هم يتولون ويعرضون عن التحاكم إلى كتاب الله، المتضمن لمنهج الله للبشر، بينما منهج الله يدبر أمر الكون كله وأمر البشر.. وفي الوقت ذاته تمهد للتحذير الوارد في الفقرة التالية من تولي المؤمنين الكافرين من دون المؤمنين. ما دام أن لا حول للكافرين في هذا الكون ولا طول. والأمر كله بيد الله. وهو ولي المؤمنين دون سواه: